فن وثقافة

المـــسرح العـــــيادي تــــجـربـــة رائـــدة لخـــالد بلعـــزيـــز / ذ.عـــــزيــز قنجـــاع*

سبق لصديقيّ المخرج المسرحي المتألق خالد بلعزيز ورئيس جمعية مرضى الصرع والاعاقة محمد لخضر ان دعونني لحضور ورشة للتنشيط المسرحي يؤطرها الاستاذ خالد بلعزيز، تجربة تسعى من خلالها جمعية مرضى الصرع والاعاقة الى ادماج مريض الصرع في المجتمع ولفت الانتباه الى معاناته، قد تبدو الامور الى هنا عادية لكن وانا اتابع تلك الورشات كنت اتساءل ماذا يحدث هنا، هل نحن بصدد مسرح جديد لم يبدا بعد بالوجود، اقتبست تسميته من تداخل تزاوجي بين التمثيل والعمل العيادي الطبي والاسترجاع على شفى الذاكرة ، ارتايت ان اطلق عليه “المسرح العيادي”.
يقوم المسرح العيادي كما يؤديه خالد بلعزيز على الاشتغال على الغياب الممتلئ بالضرورة ، القائم بين هوة التكرار المتجدد للموت في نطاق الحياة، انه مرض الصرع كما يستجليه بلعزيز من خلال العمل المسرحي.
يريد بلعزيز في هذا العمل الانتهاء من مفهوم المحاكاة للفن، الانتهاء من الجمالية الارسطية والانخراط المباشر في الموت من خلال مرض الصرع باعتباره موت بتكرار متجدد.تكرار يقوم على النفاذ الى تجربة تبدو سابقة على تجربة الحياة وهي تجربة العدم، واخرى تبدو لاحقة لها وهي تجربة الموت من خلال معبر الصرع. وهو هنا يتجاوز التمثيل كمعنى للتمثل اي الاستحضار والمحاكاة. اذن دون ريب وكما يفهم من خلال الاسطر السابقة فان المسرح العيادي لدى بلعزيز خال من مؤلف هو فقط انتصار للإخراج الخالص، يغيب النص لصالح الحياة الخاصة للمرضى في ابهى خصوصياتها، لا يقدم قطعا مسرحية مكتوبة، يقيم بلعزيز مسرحه على عدم تقديم قطع مؤسسة على الكتابة و الكلام. يختفي التمثيل اللفظي لصالح التمثيل المشهدي، لا تغيب فيه الكتابة بل كتابته قائمة على رسوم بالجسد ترمز الى حالة من حالات الغياب او الاستعادة المتكررة للموت المتوثب وتبدو معه حركات الصرع هي حركات الروح على عتبة الانتقال نحو الموت. عموما يطمح خالد بلعزيز الى تحقيق مادي و بصري وتشكيلي للكلام واستخدام الكلام بمعنى ملموس ” ملموس لا يعني تمظهرا صوتيا ” بل معالجة الكلام كموضوع فضائي وكمادة صلبة ترج الاشياء الداخلية وتتحول الكتابة المسرحية هنا لا نصوصا يعاد تمثيلها بل كتابة ترتبط فيها العناصر الصواتية بعناصر بصرية تصويرية ٠و تشككيلية، وهنا اتخيل عملا يجمع آل بلعزيز خالد وعبد اللطيف.
ربما كان بلعزيز هنا ينهض على فهم فرويدي معين للحلم كتحقق تعويضي حيث يرى بلعزيز الصرع هنا كاستبدال للحياة البرانية باخرى جوانية يقوم الصرع هنا كنفق او قنطرة او ممر بينهما، ففي مشهد دقيق يشرف عليه خالد شخصيا من خلال التدقيق المستمر فيه؛ يصف فيه احد الممثلين المرضى حالة الصرع العميقة ويحكي تجربته وهو في قلب عالم الصرع ، يبدو الصرع خلاله عالما داخليا مليئ بالحوارات والصور والاصوات ويمكن ان نلاحظ ايضا من خلال ما يحكيه هؤلاء المرضى عن الوجود في حالة الصرع في لحظة الاغماءة تلك، لا اقول الاغماءة لان الصريع يجاهد الوجود والعدم في ارتجاج ظاهر للجسد و بشكل عنيف وكأن الممر ضيق بينهما لا يستطيع الجسد ان يكون معبرا ، وبرغم كل الضيق لا تستطيع النفس المرور منه، فتبدو حالة الصور لدى الصريع في حالة الاغماء نظام للمعنى مرصوص بتداخل للصور، ويمارس الصرع هنا عملياته البلاغية من القلب الى الاضمار فالكناية فالاستعارة حيث تتحول الافكار الى صور وكان الصرع هو ذاته عملية كلها تختزل في القدرة على الاخراج، ويبني بلعزيز إخراجه على إخراج مستأنف سابق للصريع.
يريد بلعزيز عن طريق المسرح ان يعيد للصرع جذارته ويصنع منه شيئا اكثر أصلية أكثر حرية وأكثر توكيدية من مجرد فاعلية مرضية عيادية، بل وظيفة نفسية واستبدالية بنفس شعري عميق للاحلام الملتبسة القائمة في عوالم الغيب الصرعي. فالمسرح العيادي اذن لدى بلعزيز مسرح مختلف و ينسف الاسس الارسطية فهو لا يتمثل الواقع او يعكسه او يرقى به الى مستوى جمالي ما كما هو من المفروض، بل هو مسرح مختلف يخترق الوجود والجسد ويعيد ترميمهما، فالمسرح العيادي لدى بلعزيز يعيد للمرضى امكانية ترميم جسدهم الخاص الذي سرق منهم في لحظة صرع اوغشاوة او نوم.
وبما ان الصرع هو تجربة الموت المتجدد ، فالمسرح هنا سيقوم بوظيفة الحضرنة “استسمح على هذه المصطلحات التي اشتغل بها هنا فانا لا اجد في قاموس الاشتغال النظري مفاهيم متاحة لذا احاول ان انحت لنفسي مصطلحات خاصة للتواصل ” فالحضرنة هنا ليست تمثيلا انها الحياة نفسها بكل ما فيها من متعذر على التمثيل، كل ما لا يمكن تمثيله ، فالمسرح العيادي باستعماله الحضرنة الجوانية للمريض بالصرع فهو يضاهي الحياة لكن لا هذه الحياة الفردية هذا الجانب الفردي من الحياة الذي تنتصر فيه الطبائع النفسية للافراد كما هي متداولة و معروفة ، وانما ضرب من حياة محررة عن القبض الادراكي و اللغوي، ففي قمة مضاهاتها للحياة نجدها تكنس الفردية الانسانية وتستحضر مناطق الظلال الخاصة والمناطق المعتمة حيث تتحول الإغماءة هنا كما وصفها انطونان ارطو في مسرحه ” بالاغماءة التي هي موت مع ولادة بذكرى قديمة، ذكرى وجودنا السابق”.
وفي الاخير اود ان اقول بالنسبة للمشتغلين بالجانب التنظيري للمسرح اني لا اوازي هنا عمل بلعزيز كاقتباس لاعمال جاك كوبو واندري جيد وجان شلومبيرغ ولا اعني مسرح لو فيو كولومبيه 1913 الذين ناهضوا الواقعية واستلهموا الاعمال المتفرعة عن الدراسات النفسية خصوصا مدرسة فرويد، تجربة بلعزيز انطوت على مسرحة متفننة للمرض بذاته وليس تصور عن المرض بل المرض وقد تقمص المسرح.
اتمنى لهذه التجربة الخروج الى النور ليتمتع الجمهور بأداء جديد يكون فيه الممثل هو الذات والموضوع في نفس الان وهي تجربة لم تحصل الى الان.
*(ذ.عزيز قنجاع باحث وناقد ادبي)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى