أطلت فيروز على وجعنا في وداع زياد…

في لحظة وجع أمومي نادر، أطلت السيدة فيروز خلال تأبين ابنها زياد، لم تكن طلّتها ظهورًا عاديًّا، بل كانت صفحة جديدة تُضاف إلى كتاب الأسطورة، وصرخة صامتة في وجه زمنٍ فقد ملامحه، زمنٍ صار فيه الفن سلعة رخيصة تُعرض على الأرصفة، والفنان صورة بلا روح، يتلوّن كيفما شاء السوق ويهوى.
فيروز، كما عرفناها عبر عقود من الصمت النبيل والغناء الطاهر، لا تزال كما هي… امرأة لا تنتمي إلى هذا الضجيج، بل إلى ضوء الفجر، وإلى صمت الكنائس، وإلى أنين الأمهات. ظهرت بقامتها المنحنية قليلاً من ثقل الزمن، لكنّ هيبتها كانت مشدودة كوتر كمان، ونورها مسكون في وجهها، لا تطفئه خسارات الدنيا.
ليست فيروز فنانة وحسب، إنها أيقونة.
ليست فقط صوتًا يرافق صباحاتنا، بل هي طريقة حياة.
منذ بداياتها، لم تكن تغنّي لتُطرب، بل لتطهّر.
في أغانيها وطن، وفي صمتها تاريخ، وفي دمعتها رسالة.
أمام نعش ابنها، لم تحتج فيروز إلى الكلام، كانت ملامحها تنوب عن آلاف الكلمات. كانت تشهد، من موقع الأمومة الجريحة، على كل ما أنجبته من حب وفن وصدق. وكأنها، حتى في حزنها، تقول لنا: “ما خنتُ الفن، ولا تخليت عن الذوق، ولا لبست قناعًا يرضي الناس. بقيتُ كما أنا: صوتًا من الغيب، وترتيلة من قلب بيروت، وامرأة تحفظ سرّ النقاء.”
هي اليوم تودّع ابنها، لكنها في ذات اللحظة تودّعنا جميعًا عن بعد… تودّع زمنًا لم يعد يشبهها. ترفع يدها في وداع صامت، ربما هو الأخير، كمن يقول: “كفى… لقد أوفيتُ الرسالة، وسأعود إلى صمتي.”
فيروز لم تُعزِّ فقط ابنها، بل عزَّت فينا زمنًا كنا فيه نعرف معنى الفن، ومعنى الأمومة، ومعنى الاحترام. عزّت فينا أرواحنا المرهقة، وهمست لنا من بعيد:
“ابقوا أوفياء لما هو جميل… لما هو حقيقي… لما هو سامٍ.”
كتبه / هشام بوغابة