الرأي

الانفجار العظيم في زمن الانكماش الفكري…

تُعتبر نظرية الانفجار العظيم (Big Bang) واحدة من أكثر النظريات العلمية قبولًا لتفسير نشأة الكون وتطوره. ورغم أنها تبقى “نظرية” ضمن المنظور العلمي، فإنها تمثل ثمرة قرون من البحث والرصد والتجريب، وتشكل حاليًا الإطار المرجعي الذي تُبنى عليه تصوراتنا الكونية، من نشوء المجرات إلى تطور الزمن والمادة.
إلا أن أي نظرية، مهما بلغت من القوة، تبقى نسبية، خاضعة لتقدم المعرفة البشرية. فالعلم لا يقدم حقائق مطلقة، بل نماذج تفسيرية قابلة للمراجعة والتطوير حسب ما يتيحه الزمان من أدوات ومناهج ووسائل رصد. من هذا المنطلق، تُمثل نظرية الانفجار العظيم ليس فقط فهمًا علميًا، بل أرضية خصبة لاستشراف آفاق جديدة في فهم الوجود، ووضع رؤى مستقبلية للمعرفة الإنسانية.
لكن في الجهة الأخرى من هذا الكوكب، في مجتمعات تُعاني من انكماش فكري، لا تزال هناك أصوات تُشكّك في كل ما هو علمي وحديث، لا استنادًا إلى بحث أو حوار معرفي، بل من منطلق جهلٍ مستشرٍ. ويزيد الطين بلة، أن هذه الأصوات تجد لها منابر بين بعض من يلبسون عباءة الدين، حيث يُستعمل الخطاب الديني أداة لمواجهة كل ما لا يُوافق رؤيتهم التقليدية، بدل أن يكون حافزًا على التفكير والتدبر.
إننا نعيش مفارقة محزنة: كيف ننتظر من البعض أن يُصدق بنظرية علمية معقدة تُفسّر نشأة الكون، وهم ما زالوا يُجادلون في كروية الأرض؟ كيف نتحدث عن الإيمان المبني على العلم، في بيئاتٍ لم تتجاوز بعد مرحلة مقاومة الحقائق البسيطة؟
هنا لا يكون الخطر في الجهل فحسب، بل في تبني الجهل كمنهج حياة، في رفض أدوات العصر، والارتماء في حضن الماضي كوسيلة للهروب من أسئلة الحاضر.
العلم، في جوهره، لا يناقض الإيمان، بل يثريه. فكل حقيقة جديدة نكتشفها، هي لبنة في بناء فهم أعمق للكون، ودعوة للتأمل في روعة الخلق. الإيمان الحق لا يقوم على الجهل، بل على وعيٍ يربط بين العقل والقلب، بين النظر في السماء، والنظر في النفس.
ولعل أول خطوة نحو تجاوز هذا التباعد المعرفي، أن نُعيد الاعتبار للعلم في ثقافتنا، وأن نُحرر الدين من التوظيف الشخصي المحدود، فنمنح أبناءنا أملًا في مستقبل لا يُخاصم فيه العقل، ولا يُحتقر فيه السؤال.

كتبه / هشام بوغابة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى