فن وثقافة

في قلب المازق الحضاري / هل اضعنا البوصلة

في زحمة العالم، وسط ضجيج المدن، وتكدّس الأخبار، وتناسل الشاشات… شيء ما انكسر. ليس فقط في العقول، بل في الأرواح. نحن أمام مأزق حضاري لا تخطئه عين واعية، مأزق يتجاوز الاقتصاد والسياسة ليصل إلى عمق الإنسان، إلى معنى وجوده، إلى وظيفته في الكون.
لقد تاهت الأمم، أو كادت، بين مدّ الحضارة وجزر الهوية. فصرنا نستهلك كل شيء دون أن ننتج شيئًا يليق بتاريخنا. نلبس أفكارًا ليست لنا، ونكرر خطابات فقدت روحها، ونعيش حاضرًا ممزقًا بين ماضٍ نفتخر به ومستقبل نخشى مواجهته. إننا نمشي كثيرًا، لكن دون اتجاه.
كأن عجلة الزمن في مجتمعاتنا تدور دون أن تتقدم. نعيد إنتاج الأخطاء، نُجدد الواجهة ونبقي الأساسات مهترئة. لا نخيط نهجًا لمقامنا، لا ننسج مشروعًا يليق بهويتنا وتفكيرنا. نعيش دائمًا على مقاسات ليست لنا: نستعير أنظمة اقتصادية و اجتماعية….، ونعتمد حلولًا مستوردة، ثم نكتشف كل مرة أنها لا تصلح، فنغيرها، لكن دون جدوى… لأن العطب في المنهج، لا في الأداة.

في الزمن الذي تُرفع فيه الرايات الزائفة، يُقصى المفكرون الحقيقيون. من كان يُنير الطريق بات منسيًا، أو محاصرًا، أو متهمًا بالخروج عن السرب. لقد أفرغت المجتمعات من حكمائها، واحتلت الشاشات أصوات لا علاقة لها بالفكر، بل هي أدوات تسلية أو ترويج أو تسطيح.
صارت المجتمعات مستهلكة بطبعها: تستهلك الصورة، الخبر، الدين، وحتى اللغة. لا أحد يفكر في الإنتاج – لا الإنتاج الفكري، ولا الإبداعي، ولا القيمي. صار الإنسان “غثاء”، كما وصفه النبي (ص). كثيرٌ من الناس، قليلٌ من المعنى.
نحاول اللحاق برَكْب الحداثة، لكننا لم نحسن ركوبها، لأننا لم نُسائلها أولًا، ولم نُصالح ذواتنا. النتيجة: جسد يعيش هنا، وعقل ضائع هناك، وروح لا تعرف لها مأوى. الهوية لم تعد مرجعية، بل عبئًا نحاول تبريره أو التنصل منه.

رغم كل شيء، لا يزال هناك أمل. لكن الأمل لا يكفي وحده. نحن بحاجة إلى:
• مشروع نهضوي يعيد ترتيب القيم: الإنسان أولًا، الفكر ثانيًا، الإبداع ثالثًا.
• تعليم يحرر العقل بدل تلقينه.
• مؤسسات ترعى المفكر لا تكمّمه.
• إصلاح ديني صادق يخرج الدين من سجون الخرافة إلى فضاء العقل والوجدان.
• عودة الضمير الفردي كمفتاح للتغيير الحقيقي. فالحضارة لا تُبنى بخطاب جماعي فقط، بل بانبعاث فردي واعٍ.

نعم، نحن في مأزق، لكنه ليس قدرًا محتومًا. ربما نعيش لحظة “صمت ما قبل الصرخة”، وربما تكون هذه الظلمة إرهاصًا بفجر قادم. لكن لن يُشرق هذا الفجر ما لم نواجه الواقع، ونطرح الأسئلة الصعبة، ونُعيد البوصلة إلى يد المفكر، لا المُروّج.
ولعل البداية تبدأ من هنا… من هذا السؤال الذي يطرحه كل إنسان لم يستسلم بعد:
إلى أين نمضي؟
وهل لا زال في الطريق من يضئ لنا العتمة /

هشام بوغابة ،،،،،،

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى